
بغداد- المدى
يستعيد معرض العراق الدولي للكتاب هذا العام واحداً من أكثر الأجناس الأدبية حميمة وعمقاً: أدب الرسائل، ذلك الفن الذي يخلط بين السيرة والاعتراف، بين اليوميات والبوح، بين التاريخ والوجدان. ومع كل جناح وكتاب، بدا وكأن الرسائل تعود لتأخذ مكانها الطبيعي في قلب المشهد، بوصفها شكلاً من أشكال الكتابة التي لا تنفصل عن روح صاحبها ولا عن زمنه.
في جناح دار تكوين السورية حضرت إميلي ديكنسون بصوتها الهادئ والمفزع في آن، عبر كتاب رسائل إميلي ديكنسون، الذي يكشف الجانب الخفي من شاعرةٍ جعلت من الرسالة مختبراً لقصيدتها. هنا لا تعرف أين ينتهي الشعر وأين يبدأ النثر، فاللغة تتكثف وتتلألأ كما لو أنها قصائد غير مُصفّاة، رسائل غريبة، آسرة، تتقد بالعاطفة والحدس والقلق.
أما منشورات الجمل فقدمت ثلاثة وجوه كبرى لأدب المراسلات: بودلير، تشيخوف، وطبقة كاملة من تفاصيل حياتهما. في رسائل بودلير يجد القارئ مادة لا تشبه مراسلات الكتّاب الآخرين ليست سيرة حافة ولا وثائق سياسية ولا تحليلاً فلسفياً، بل دفاع متوتر عن الذات، واعترافات تفيض بالشك والحدة والحيرة.
وفي رسائل تشيخوف يفتح الكاتب الروسي نافذة واسعة على عالمه، في رسائل تتنقل بين أسفاره، وتجاربه، وأيام مرضه، وصداقاته مع أعلام «العصر الفضي» للأدب الروسي. رسائل قصيرة، لكنها تمسك الزمن من عنقه: من الجزر إلى مسارح موسكو، ومن حياة الريف إلى قلق الفنان أمام نصّه.
وتتخذ الرسائل طابعاً مختلفاً في جناح منشورات العربي مع كتاب رسائل سجين سياسي إلى حبيبته لمصطفى طيبة. هنا يصبح البوح وثيقة تاريخية، والسجن مسرحاً لوعي جيل كامل عاش بين الخمسينيات والستينيات المصرية. رسائل تُكتب من خلف القضبان، لكنها لا تحمل حقداً ولا رغبة في الانتقام، بل رغبة في الفهم.
وتواصل دار الرافدين الاحتفاء بالرسائل عبر عنوانين لافتين: رسائل إلى شاعر شاب لريلكه، حيث تتحول الرسالة إلى درس في الحياة قبل أن تكون نصيحة في الشعر؛ فالكلمات هنا تحيا في التجربة، في العزلة، في القلق الخلّاق الذي يصنع الفنان. ثم يأتي كتاب رسائل إلى فيرا، الذي يكشف الوجه الأكثر إنسانية لنابوكوف، بعيداً عن أسطورته الأدبية. رسائل تمتد على مدى نصف قرن، مكتوبة لامرأة كانت مركز حياته، فتكشف عن الحب، والتشتت، والهجرة، والصراعات السرية، والصلابة التي تخفي هشاشة كبيرة.
وتعود دار تكوين مرة أخرى بصوت ثالث لا يقل قوة: صوت سيلفيا بلاث. في كتاب رسائل سيلفيا بلاث يتعرّف القارئ على امرأة كتبت من قلب العاصفة: عن اكتئابها، عن فقدانها المبكر لوالدها، وعن علاقتها المضطربة بوالدتها، وعن تلك القدرة العجيبة على تحويل الألم إلى كتابة لامعة. خمسون سنة مرت قبل أن ترى هذه الرسائل النور، لكنها ما تزال حارة مثل يوم كتبت.
في كل هذه العناوين بدا أن أدب الرسائل يعود في المعرض باعتباره فناً لا يشبه أي جنس آخر. فهو وثيقة واعتراف، تاريخ وحميمية، شعر ونثر، وفوق ذلك كله، هو فن يقول الحقيقة بطريقة لا تستطيعها كتب أخرى.
