
نوري حمدان
لم يكن افتتاح معرض العراق الدولي للكتاب هذا العام مجرد حدث ثقافي جديد تزدحم به روزنامة العاصمة. فالدورة السادسة جاءت محمّلة بما يشبه البيان الاجتماعي الصريح، وهي تتبنّى شعاراً دالاً: «100 نون عراقية».. وكأن بغداد أرادت أن تقول بصوت واضح: إن ما نهمله من أدوار النساء، نهمله من مستقبلنا نفسه.
الاحتفاء بمئة امرأة عراقية لا يمكن قراءته بوصفه لفتة احتفالية عابرة، بل باعتباره محاولة جادّة لإعادة كتابة السردية العراقية من جديد؛ سردية تُنصف النساء اللواتي وقفن طويلاً في الظل، بينما كنّ في الحقيقة في قلب الفعل الثقافي والاجتماعي.
هؤلاء المئة – بأسمائهن وتجاربهن وذاكرتهن – يمثلن رصيداً معرفياً يتجاوز التصنيف ويعلو على المجاملة. إنه تكريم يعيد ترتيب العلاقة بين المجتمع والمرأة، ويذكّر بأن الثقافة لا تكتمل إلا حين يُفتح الباب لنصفها المغيّب أو المُتعَتَّق بالصبر.
تجول في أروقة المعرض، فيصلك ذلك الصوت الخافت الذي يصعد من الكتب، ومن وجوه الزائرين، ومن رفوف الناشرين القادمين من بلدان متعددة.. صوت يقول إن بغداد ما زالت قادرة على استعادة دورها، وأن الثقافة – مهما تراجعت – تظل قادرة على جمع الناس حول كلمة، أو فكرة، أو توقيع كتاب.
المعرض بدا هذه المرة أقرب إلى استعادة نبض قديم؛ لقاء بين أجيال، بين كاتب يبحث عن قارئ، وقارئ يبحث عن معنى، ومدينة تبحث عمّا يعيد إليها إيقاعها الأول.
ليس المعرض مجرد تجمّع للكتب. إنه – عملياً – مساحة اختبار لمدى حاجتنا إلى الحوار، وإلى إعادة بناء جسر الثقة بين المجتمع ومعرفته.
ورشٌ، ندوات، جلسات نقاش، توقيعات، وقاعات تزدحم بالطلاب والباحثين.. كل ذلك يحوّل المعرض إلى مركز فعل تنويري، يلامس القضايا الواقعية للناس، ويعيد للكتاب دوره الطبيعي كرافعة وعي، لا كسلعة تُعرض وتُطوى.
اختيار هذا الشعار يحمل بُعده الأعمق: فالمشكلة ليست في غياب النساء عن المشهد الثقافي، بل في غياب الاعتراف بدورهن في صنع هذا المشهد.
ولعلّ هذا التكريم – في توقيته ولغته – خطوة نحو إعادة التوازن، ونحو تثبيت حقيقة أن الثقافة التي لا تفتح أبوابها للمرأة، هي ثقافة بعين واحدة.
في النهاية، يظل المعرض حدثاً يتجاوز الكتب، ويمتد إلى الأسئلة الكبرى التي نتهرّب منها:
كيف نعيد بناء ذائقتنا؟ كيف نمنح المعرفة مكانها الطبيعي؟ وكيف نقرأ المرأة – ليس بوصفها عنواناً للتكريم – بل شريكاً أصيلاً في صناعة الوعي؟
ولعلّ «نون العراق» التي احتفى بها المعرض اليوم، ليست سوى صفحة من كتاب أكبر.. كتاب نكتبه جميعاً، حين نقرر أن الثقافة ليست ترفاً، بل ضرورة تضيء ما يتبقى لنا من طريق.
