كه يلان محمد
ليس من المستغرب أن يتعاطى بعض الدارسين مع الحب بوصفه مشكلة وجودية، كما فعل المُفكر المصري زكريا إبراهيم في كتابه (مشكلة الحب). وبدوره، فضّلَ الكاتب العراقي علي حسين أن يكون عنوان كتابه الأخير عن التجربة العاطفية لدى ثلاثين شخصية من خلفيات ثقافية وفكرية وفنّية متنوّعة بصيغة سؤال، (سؤال الحب من تولستوي إلى آينشتاين – دار المدى 2018) كون الحب معادلة لا تقبلُ إجاباتٍ مُختبرية، لذلك ما برح السؤال بشأنِه مطروحاً، علماً أنَّ ما يُتداولُ في المدوّنات الفلسفية والأطروحات العلمية حول الحب قد يفوقُ على ما تَمَّ تناولهُ بالنسبة لأيِّ مفهوم آخر.
هذا فضلاً عن غزارة الأعمال الفنّية والأدبية التي تُعبّرُ عن لواعج الفُؤادِ والهيام في العشق. ولولا تذوّق المُبْدعينَ لهذه التجربة الإنسانية الفريدة لما قُدّر لنتاجاتهم التَمَيُز والريادة. إذاً يبحثُ صاحبُ (دعونا نتفلسف) في إصداره الجديد عن الحياة العاطفية لدى شخصياته المُختارة بدءاً من تولستوي مروراً بتيشخوف وبيكاسو وآينشتاين وصولاً إلى الفنان العراقي جواد سليم.
من أوجه المفارقة في قصص الحب التي يضمها هذا الكتاب هو أنَّ العلاقة العاطفية قد تكون مصدراً للسعادة وتفتحُ صفحة جديدة في مسيرة المرء وتُغذّي عبقرية الإبداع المُتمثّل في فنون وأجناس أدبية مُتعددة، وربما يؤدّي التعثرُ في الحب إلى التأزّم النفسي لدى كبار المُبدعين، كما وقع ذلك في حياة الرسام الهولندي فان غوخ.
ويقول فرويد عن معاناة صاحب لوحة (Starry Night) أنهُ كان سيعيشُ أكثر لو نجح في الحب، ويعزو سبب إنهياره إلى الفشل في العثور على رفقة أنثوية.
إذ يتوقف علي حسين بالتفصيل عند هذا الفنان العبقري ضمن فصول كتابه، حيثُ يستعيدُ في المقدمة مقولةً للمفكر الهندي نيسار كادتا مهراج (إنَّ الحياة هي الحُب والحُب هو الحياة)، مُشيراً إلى أنَّ هذه العبارة قد أثارت إنتباههُ ومن هنا أراد أن يفتّشَ عن سرّ الحب، وأورد في السياق نفسه آراء “أوفيد”، وهو يرى أنَّ الحب هو الحياة كلها بعكس ما اقتنع به “أبيقور”، فبرأيه أنَّ الحُبَ ليس إلّا زينة للحياة وما نقله المؤلف من الفيلسوف الألماني “هايديغر” الذي اعتقد بأن لا شيءَ يقودك إلى قلب العالم أكثر من الحب، يكشف عن رؤية أوسع لهذا الموضوع لا تختلفُ كثيراً عن إيمان المتصوّفة بضرورة التفاني في الحب قبل الوصول إلى الحقيقة.
يصْحَبُكَ الكاتب في القسم الأول من الكتاب في تتبّعِ حياة الروائي الروسي تولستوي الذي يعترفُ بإقامة علاقات كثيرة مع النساء دون أن تدومَ أيّ علاقة أكثر من أيام معدودة، وكان حذراً في مسألة الحُب والزواج إلى أن يتعرّفَ إلى سونيا، إبنة طبيب ألماني يتردّد على بيتهم ويقرأُ لهم أجزاءَ من القصص، ومن ثُمَّ يعلنُ مؤلف (الحرب والسلام) عن مشاعره. وبعدما يكلّلُ حبّه برباط مُقدّس، يكتبُ في يومياته (حظٌ من السعادة لا يُصدق)، لكن الأمر لا يستمر على هذا المنوال وتكدّر الغيرة صفو الحب بين الاثنين. أما عن تمثّلات الحبّ في مؤلّفاته، فاستلهم تولستوي مادة رائعته (آنا كارنينا) من حكاية جاره مع امرأته التي أهملها من أجل مربّية ألمانية فما كان من الزوجة إلّا أن اختارت الانتحار تحت سكة القطار، وفي القسم الثاني يكون المتلقّي أمام قصة تشارلز ديكنز مع النساء وإخفاقه في تجربة حبّه لممثلة مسرحية تنصحه بالنسيان والبحث عن زوجة تناسبهُ كما يذكر الكاتبُ إعجاب ديكنز برواية (هلويز الجديدة) لجان جاك روسو، ناهيك عن الالتفات إلى صعوده في عالم الأدب وازدياد شهرته، وكانت الانطلاقة من لحظة وقوع نسخة من روايته بيد كاترين ابنة رئيس تحرير الصحيفة التي يعملُ فيها مندوباً.
وتأتي حلقة أخرى عن ثنائية سارتر وسيمون دي بوفوار واعترافات صاحب (الوجود والعدم) عن معاناته النفسية لافتقاده إلى الوسامة، إلى أن تحرّر من هذا الشعور أكثر من ذلك. يُفرّق سارتر بين الحُب والشهوة المكانيكية والاستعباد ويخبرُ صديقة دربَه بأنَّ الحرّية كانت تسبق الحب بالنسبة إليه، وتمنّى في حواره الأخير لو وضع الترتيبَ معكوساً ومن جانبها تُضمّن سيمون دي بوفوار كثيراً من آرائها بشأن الحب في رواية (المثقفون) .هكذا تتواردُ آراءُ مشاهير الفكر والفن حول مفهوم الحب مُستوحين من مُعتركه نواةَ أعمالهم. وما رواية الحب في زمن الكوليرا لغابرييل غارسيا ماركيز إلّا صورة من تجربة الحب التي عاشها والداه. ويذكرُ ماركيز تأثّره الشديد بعبارة شكسبير (الحبُ وحده بقوته الجبارة يمكنه مُجابهة الزمن) مع تفاقم أزمته النفسية نتيجة إخفاقاته على المستوى العاطفي. لكن ذلك لم يمنع فان غوخ من مواصلة الإبداع واستلهام صورة المرأة التي أحبّها في لوحاته (أورسولا)، كما ألّف تورغينيف روايته (الحب الأول) عندما كان مُتيّماً بالممثلة بولين، وكتب بول إيلوار أجمل قصائده بإيحاء عشقه لـ”غالا”، كما أنّ مواطنه الفرنسي (آراغون) لم يرَ مستقبلاً خارج إليزا.