0%

دهشة الكتاب

علي المرهج

تتأتى الدهشة في الكتاب من قيمة ما يُقدمه الكاتب من كم معلومات ووعي نافذ وناقد لا يتوفر في أي كتاب، إنما تجده يحضر عندك بمقدار ما يكتنز الكاتب من وعي أخاذ ينقلك لعوالم الدهشة التي بدورها تجعلك تعيش لحظة أو لحظات السعادة التي يكتنفها القلق المعرفي الذي يجذبك للنزول إلى نهر الكلمات التي دُونت في هذا الكتاب الذي تمكن كاتبه من أن يصطحبك معه حين بداية تصفحك له وقراءتك للمقدمة. مثل هكذا كتب قليلة ولكنها موجودة رغم ندرتها. تلك الكتب التي يتمكن كاتبها من جذب القارئ المحترف للقراءة ليسيح مع الكاتب ويُشاركه متعته وتساؤلاته.

قد تكون هناك كتب ممتعة وجاذبة، وهي كثيرة، ولكنها لا تثير عند القارئ فضول التساؤل والأشكلة وتحفيز الوعي النقدي، لأنها كُتب تداعب الوجدان والعاطفة، وتلك كتب نحتاج إليها لغرض الترويح عن النفس مثل قراءة القصص والروايات البوليسية أو أشعار عن الحب وفقد الحبيب والمدح والرثاء لأنها كتب صديقة للروح تسد الفراغ العاطفي والشغف قي ما يجعلنا نعيش في عوالم المخيلة.

الكتب التي أقصدها هي الكتب التي تستفز عقل القارئ لتصدم المعرفة السكونية السائدة، وتجعله يُعيد حساباته في الحياة والوجود والمعرفة والأخلاق. هي الكتب التي تكسر أسر العقائد والأيديولوجيات بوصفها حقائق نهائية لتنقلك لعوالم الدهشة الفلسفية لأنها تجعلك تُعيد حساباتك فيما هو مألوف عندك من المعارف والتقاليد الموروثة وتدعوك لاستخدام عقلك بعيدًا عن كل معرفة موروثة لا لتُشكك بها لمجرد الشك، بل لتفحص مقدار صمود معارفك أمام المعرفة النقدية، لذلك قلت إن أمثال هذه الكتب قليلة إن لم تكن نادرة، ولكنك تجدها في العوالم التي صنعتها ومهدت لها الفلسفة، ولنا فيما كتبه ديكارت في كتابه «مقال في المنهج» وحديثه عن الشك، أو فرنسيس بيكون في كتابه «الأورغانون الجديد» ونقده لأوهام المجتمع. في الفلسفة الحديثة ما يستفز العقل السكوني القروسطي الذي ورث فلسفة أرسطو وعدها معرفة علمية لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها كما يُقال، ولا أدل على ذلك من قول ابن رشد عن أرسطو بأن «الرجل الذي كمل عنده الحق» وكأن أرسطو معصوم من الخطأ، ولكن ما أنتجه الفلاسفة والعلماء في الفلسفة الحديثة من كتابات غيرت مجرى التاريخ العلمي والفلسفي في تلقي علوم السابقين ونقدها، الأمر الذي جعلها ممهدة لعصر التنوير الذي كان لفلاسفته الدور الكبير في فهمنا لمعنى «الدهشة الفلسفية» التي تحدث عنها أرسطو في كتاباته، لتكون هي الأصل في نقدها والخروج من سطوتها.

في مقاله «ما التنوير» كتب كانت عن قصور الإنسان في عدم استخدامه لعقله، واعتماده على آخر يُفكر بالنيابة عنه، وكان لمقاله هذا فعل النار في الهشيم كما يُقال، بعد نقده للعقل وفضحه لخضوعه لمنظومات التفكير السائدة تُمارس الوصاية عليه.

في كل نتاج فلاسفة التنوير كانت الدهشة هي الفاعل في الحراك الثقافي والفلسفي في الحداثة وما بعدها، وكان الكتاب هوية الكاتب الذي يصنع الدهشة ويعيد التساؤل والأشكلة حول المعرفة والوجود والقيم بما يستفز العقل الراكد ليُعيد حساباته بموروثه المعرفي والعقائدي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top