
عبود فؤاد
عدسة: محمود رؤوف
في أجنحة معرض العراق الدولي للكتاب هذا العام، لا تمرّ على الرفوف طويلاً قبل أن تصادف كتبًا تشبه جبهات مفتوحة، نصوصًا كتبت في ظل دخان الحروب، وذاكرة تؤرّخ ركام المدن والأرواح والأنظمة. هذه العناوين لا تستعيد الماضي فقط، بل تضعه أمام القارئ كما لو أنّه يحدث الآن.
في منشورات الجمل يحضر كتاب «القسوة والصمت» لكنعان مكية بوصفه واحدًا من أهم الأعمال الفكرية التي فتحت ملف الاستبداد في العالم العربي. يتتبع مكية العلاقة المظلمة بين السلطة والخوف، بين يد البطش ولغة التواطؤ التي تجعل الصمت شريكًا في الجريمة. شخصياته—أبو حيدر، عمر، تيمور—تتحرك وسط أنظمة لا تعترف بالضعفاء. الكتاب الذي نال جائزة ليونيل غيلبر عام 1993، وثيقة تكشف آليات القمع التي صنعت تاريخًا طويلًا من الانكسار.
ومن الناشر نفسه يأتي كتاب «معركة أم المعارك» لكيفن م. وود الذي يعيد قراءة حرب الخليج الأولى من زاوية عراقية خالصة. لا يكتفي بتحليل الوقائع العسكرية، بل يقدّم صورة ما جرى كما رآه صانعو القرار في بغداد آنذاك.
على رفوف دار سطور، تتجه الكتب إلى الجبهة الداخلية للحرب—حيث يعيش البشر قبل التقارير العسكرية. في كتاب «ضحايا وخفايا» للواء طارق متعب أحمد يستعيد المؤلف سنوات من العمل الأمني والشرطي في بغداد وعدة محافظات، فيسجل شهادات ووقائع غامضة من ملفات الجريمة، الحروب، والاضطرابات. نصّ يمزج بين توثيق وقائع حقيقية وبين رواية مهنية عاش صاحبها في قلب الصراعات التي صنعت ذاكرة العراق الأمنية الحديثة.
وإلى جانب ذلك صدرت عن الدار شهادة شخصية كثيفة في كتاب «القتيل الحي والشاهد الحاضر» لغازي شاكر الحبوري. يتحدث فيه المؤلف عن الأيام الأخيرة للزعيم عبد الكريم قاسم، عن الدم الذي سال في انقلاب 8 شباط، وعن رفاق قُتلوا دون محاكمة سوى حبهم لبلادهم. الكتاب ليس تأريخًا سياسيًا فقط، بل مبادرة لاستعادة أصوات أُسكتت بالقوة، ومحاولة لإنقاذ اللحظات من النسيان عبر شهادة رجل عاش المعركة ونجا ليحكيها.
أما دار الرافدين فتقترح زاوية أخرى للقراءة من خلال كتاب «الجيش الأمريكي في حرب العراق» للعقيدين جويل رايبورن وفرانك سوبتشاك، الذي يجمع شهادات داخلية من المؤسسة العسكرية الأمريكية. هنا تُروى الحرب من قلب الخنادق السياسية والعسكرية التي سبقت الغزو وما تلاه من انهيار الدولة واندلاع العنف الطائفي وصعود التطرف. شهادة لا تبرّر، لكنها تكشف آلية تفكك بلد بكامله.
وفي المركز العربي للأبحاث تأتي قراءة اجتماعية معمّقة في كتاب «العراق في زمن الحرب» لدينا رزق خوري، حيث يُبحث أثر الحروب على المجتمع العراقي لا كتواريخ عسكرية، بل كحياة يومية عاشتها الأمهات، الجنود، الطلبة، والموظفون. هنا الحرب ليست معركة أو قرار دولة، بل ثلاث وعشرون سنة من التعبئة، الفقد، والذاكرة التي ما تزال تصنع حاضر العراق.
في أروقة المعرض تتجاور هذه العناوين كما لو أنها أرشيف مفتوح للذاكرة. كل كتاب يحمل شظية من الحقيقة، شهادة من جندي أو مؤرخ أو ناجٍ. هذه الكتب لا تعرض تاريخًا مكتملًا، بل تقدم للزائر فرصة ليعيد تركيب الصورة بنفسه، صفحة بعد أخرى، وبلدًا بعد آخر.
