
بغداد- المدى
عدسة: محمود رؤوف
في الواجهة، يبدو معرض العراق الدولي للكتاب حدثًا ثقافيًا مكتملاً: أجنحة مُصمَّمة بعناية، رفوف تعجّ بالإصدارات الجديدة، قاعات تعجّ بالزوّار، عدسات ترصد الحركة، وفعاليات تتوالى بانسيابية محسوبة. غير أنّ هذه الصورة الهادئة لا تعكس سوى الجزء الظاهر من منظومة معقّدة تُدار خلف الكواليس، حيث تُبنى التجربة الثقافية الفعلية بعيدًا عن الأضواء.
خلف هذه الواجهة، تتحرّك فرق التنظيم بوصفها العمود الفقري للمعرض. تبدأ يومها منذ ساعات الصباح الأولى، وتعمل على إعداد القاعات، ترتيب المسارات، تنظيم حركة الدخول والخروج، وضبط تفاصيل تبدو صغيرة للزائر، لكنها حاسمة في صناعة الاستقرار العام للحدث. هؤلاء لا يظهرون في الصور، لكنهم يشكّلون البنية غير المرئية التي يقوم عليها المعرض.
في المشهد الإعلامي، لا يُدار العمل بوصفه تغطية عابرة، بل باعتباره مشروعًا سرديًا متكاملًا. يقول أركان محمد، مدير المنصّة الإعلامية ومخرج التغطية، إن ما يُصنع ليس مجرد محتوى بل صورة ذهنية كاملة عن الحدث: «نحن لا نُوثّق المعرض فقط، نحن نبني له سرديته الخاصة. كل تقرير نُنتجه، وكل كادر نختاره، وكل مراسل نوجّهه، هو جزء من صناعة صورة تليق بثقل هذه الدورة. لا نعمل بعشوائية، بل وفق رؤية تجعل كل مشهد يحمل معنى.»
ويضيف: «إدارة المراسلين وتحريك الطاقات الإعلامية ليست مهمة تقنية فقط، بل تنسيق نفسي وزمني. هناك شبكة عمل متزامنة: كاميرات، مراسلون، مونتاج، إخراج. كل عنصر يعتمد على الآخر. أي خلل صغير ينعكس على الصورة العامة فورًا.»
أما في فضاء المسرح والفعاليات الحيّة، فيقود رشوان محمد مصطفى مهمة إخراج مسرح المعرض، حيث يتولى مسؤولية إدارة الصوت والصورة والإضاءة وتوقيت الفعاليات. يعمل لساعات تتجاوز اثنتي عشرة ساعة يوميًا في مساحات لا يراها الجمهور، لضمان أن تبدو التجربة سلسة ومستقرة.
يقول رشوان: «نحن نعمل كي لا يشعر الجمهور أننا نعمل. إذا لاحظ الحضور مشاكل في الصوت أو ارتباك في الإضاءة، فهذا يعني أننا فشلنا. النجاح الحقيقي هنا أن تمرّ الأحداث بسلاسة وكأنها تحدث من تلقاء نفسها.»
ويضيف: «أحيانًا نعيد ضبط مشهد كامل في دقائق قبل صعود المتحدث إلى المنصة. الضغط هنا ليس تقنيًا فقط، بل نفسي أيضًا، لأن أي ثغرة صغيرة تُربك المشهد أمام مئات الحاضرين.»
إلى جانب هؤلاء، يعمل المصممون والمنسقون الفنيون على صياغة البنية البصرية للمعرض. فهم لا يضعون ديكورًا فقط، بل يبنون لغة شعورية للمكان: توزيع الضوء، تناسق الألوان، رسم خطوط الحركة داخل القاعات، وتشكيل مسارات تجعل الزائر يتحرك دون شعور بالتيه. هذه التفاصيل لا تُنتج ارتجالًا، بل عبر تخطيط طويل وساعات عمل تراكمية.
تتولى إدارة المعرض دور العقل التنظيمي الأعلى، إذ تُدير شبكة معقدة من العلاقات تشمل دور النشر، الضيوف، جداول الندوات، البرامج الثقافية، والطوارئ اليومية. يعمل منسقو الندوات على ضبط الإيقاع الزمني للجلسات الفكرية، ومتابعة حضور المتحدثين، وضمان توازن دقيق بين زمن الحوار واستقرار التجربة العامة.
في المساحات التي لا يلتفت إليها كثيرون، يتحرّك طاقم النظافة والخدمات بصمت شبه كامل. عملهم لا يقتصر على التنظيف، بل يتجاوز ذلك إلى الحفاظ على صورة المكان بوصفه فضاءً لائقًا بالمعرفة. هم أول من يصل وآخر من يغادر، ويتحركون بسرعة كلما حدث خلل أو ازدحام، دون انتظار ثناء أو ظهور.
يقول أحد العاملين في هذا الطاقم: «نحن نعرف أن أحدًا لا يلاحظنا، لكننا نعرف أيضًا أن غيابنا سيُلاحظ فورًا.» ولا يكتمل المشهد دون ذكر موظفي دور النشر، الذين يشكّلون جسرًا حيًا بين الكاتب والقارئ. فهم لا يبيعون الكتب فقط، بل يشرحون محتواها، يوجهون القراء، ويحوّلون الزائر العابر إلى قارئ محتمل. ساعات طويلة من الوقوف والشرح والتواصل تجعلهم جزءًا أساسيًا من البنية الخفية للمعرض.
يقول كرار ناظم احد موظفي دار ومكتبة عدنان :
«نحن لا نبيع الورق فقط، نحن نقدّم للقارئ معنى، نحاول أن نمنحه فكرة عن نفسه من خلال ما يقرأه.» مبينا « في هذا الفضاء غير المرئي، لا تُقاس الثقافة بعدد الصور ولا بحجم الضجيج، بل بعدد الساعات التي قضاها أشخاص مجهولون في صناعة تفاصيل صغيرة كي يظهر كل شيء متماسكًا. هنا لا يُقاس النجاح بالتصفيق، بل بالهدوء الذي يشعر به الزائر وهو يتحرك داخل المكان دون أن يصطدم بأية فوضى.»
هكذا يتشكّل معرض العراق الدولي للكتاب في صورته الأعمق: ليس بوصفه حدثًا يُزار، بل منظومة عمل متكاملة، تُدار بصمت، وتُبنى بإرادة بشرية لا تظهر في الواجهة، لكنها تصنع كل ما يظهر فيها .
