علي حسين
في السادسة عشرة من عمره وبعد أن أيقن أن مسيرته المدرسية ستنتهي بالفشل، قرر هرمان هيسه أن يعمل بائعا للكتب ليحصل على المال، وأيضاً ليكون قريباً من عالم يعشقه جدا، فهو يتذكر انه خلال فترة صباه كانت مكتبة جدّه المليئة بأمهات الكتب تثير في نفسه السعادة : ” قرأت نصف أدب العالم منكبّا على تاريخ الفن واللغات والفلسفة بمثابة من شأنها أن تؤهلني للنجاح في أي جامعة اعتيادية”.
كان هيسه قد عمل من قبل ميكانيكياً، لكنه وجد في مهنة بيع الكتب متعة وفائدة أكبر من العجلات والبراغي والمفكات التي اضطهدته، وأثناء عمله أنغمس في قراءة التاريخ : ” لاحظت أن في المسائل الروحية تكون الحياة في الحاضر المعاش والأكثر معاصرة غير محتملة تماماً وخالية من أي معنى. ومن الممكن فقط الوصول الى الحياة الروحية بالعودة المستمرة الى ماهو ماض الى التاريخ، الى القديم، الى البدائي “.. ومن أجل العيش مع التاريخ أنتقل من مخزن الكتب الذي يبيع الكتب الحديثة الى مكتبة متخصصة بعرض كل ماهو قديم من كتب ومخطوطات.
في العام 1900 يحدث التحول الكبير في حياته، فقد قرأ خبر وفاة فريدريك نيتشه، لم يكن يعرف شيئا عن الفيلسوف الألماني الكبير، فبحث في المكتبة عن كتبه، آنذاك كان هيرمان هسه مصمماً على أن يجعل الجميع يعترفون به شاعرا، كتب عدداً من القصائد لم تنجح وحين عثر على كتاب نيتشه ” هكذا تكلم زرادشت ” وجد أن الفيلسوف قد أخذ بيده : ” كان الجفاف يحيط بي فأخذ نيتشه بيدي “، هكذا أصبح نيتشه بشاربه الكث ونظراته المجهدة هو الكاتب الذي شغف به ابن الثالثة عشرة، ليكتب في دفتر يومياته : “لقد أعاد نيتشه تقييم كل القيم التي كنا نؤمن بها”. اكتشف هيسه من خلال عمله في المكتبة أن حياته متعلقة بالكتب، وكان يستمتع كثيراً حينما يجد نفسه لوحده مع الكتب : ” ها أنا ذا وحدي بمحض إرادتي، وحيد وسعيد بوحدتي مع الكتب “.
يخبرنا هسه أننا جميعا في بعض الأحيان نقرأ بسذاجة، نستهلك الكتاب كما نستهلك الطعام، نأكل ونشرب حتى نشبع، وبهذا نتحول الى مجرد متلقين، لا ننظر الى الكتاب كندٍ لنا، بل مثلما ينظر الحصان إلى سائقه، أينما يقود الكتاب تجدنا نتبعه، نأخذ الأفكار وكأنها أمر واقع، ويطلب منا أن نواجه قضية القراءة بحرية كاملة، وأن لا نتطلع الى التثقيف أو التعليم من خلال الكتب، بل علينا أن نستخدم الكتاب كما يستخدم أي شيء آخر في العالم، القراءة يجب أن تكون مجرد نقطة انطلاق وتحفيز.” – داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي –
لعل أجمل سني حياتي تلك التي قضيتها أعمل في مكتبة أقاربي كانت السنوات بين عمر الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، أبهج أيام العمر بالنسبة لي، وعندما أسترجع اليوم ما كنت أقرأه في تلك السنوات لا يدهشني عدد الكتب بقدر ما يدهشني تنوعها، كان الفضل الأكبر في هذا للمكتبة التي قررت أن أعمل فيها من دون أجر سوى فرصة اقتناء الكتب دون مقابل، سيل منوع بعضها روايات للفتيان ذات الطباعة الأنيقة والملونة، وما كان يؤلفه طه حسين والحكيم وعباس محمود العقاد وسلامة موسى ونجيب محفوظ. وكتب أخرى ما تزال منطبعة في ذهني حتى الآن واحد منها كتاب ممتع اسمه ” الفيزياء المسلية ” اصدرته دار نشر سوفيتية آنذاك وبنسخة عربية، وأتذكر أنني أخذت الكتاب الى البيت، كنت أشعر بالإثارة وأنا اقرأ عن ظواهر نصادفها كل يوم ولكننا لا نعرف الإجابة عنها.
متى ندور أسرع حول الشمس، كيف يجب القفز من العربة المتحركة للأمام أم للخلف، أيمكن أن نمسك رصاصة متحركة، كم يزن الجسم عند سقوطه، كيف نعرف البيضة المسلوقة من النيّئة، كيف تنقل الماء بالغربال، هل صحيح أن الجليد لا يذوب في الماء المغلي، لماذا وكيف ينكسر الضوء، هل من السهل كسر قشرة البيضة، وأعجبتني طريقة المؤلف البسيطة في شرح النظريات العلمية المحيرة، وعرفت فيما بعد أن مؤلف ” الفيزياء المسليّة ” عالم روسي اسمه ياكوف بيريلمان، توفي في عام1942. ولعل من أجمل الحكايات التي قرأتها في كتاب بيرلمان، هي حكاية جول فيرن وروايته الشهيرة ” من الأرض إلى القمر ” والتي تخيل فيها الروائي الفرنسي إمكانية إرسال بشر إلى سطح القمر عن طريق وضعهم في كبسولة وإطلاقها عبر مدفع إلى القمر!.
وبالطبع فإن من يقرأ رواية صدرت قبل اكثر من قرن ونصف، تتحدث عن الصعود للقمر، سيأخذها على محمل الخيال وضروب الجنون والخبل، وسيتعامل معها على أنها رواية طريفة خيالية يسلي بها وقته فحسب!. لكن بيرلمان يأخذها على محمل الجد تماماً!، ويذهب في تفصيل إمكانية تطبيق نظرية جول فيرن عملياً.