
فواصل الكتب… الحد الفاصل
بغداد-المدى
عدسة: محمود رؤوف
في عالمٍ تتزاحم فيه الكتب وتتشابك فيه العناوين على رفوف المعارض، تبقى هناك تفصيلة صغيرة لا يلتفت إليها الكثير، لكنها تحتل مكانًا عميقًا في ذاكرة القارئ: فواصل الكتب. تلك القطعة الرقيقة التي يضعها القارئ بين الصفحات ليست مجرد علامة توقف؛ إنها جزء من طقس القراءة نفسه، وامتداد للحظة يقرّر أن يحتفظ بها دون أن يتركها تذوب في زحمة الأيام.
فالقارئ حين يفتح كتابه، ويقف عند صفحة، ثم يضع الفاصلة برفق، إنما يمارس فعلًا رمزيًا يشبه حفظ شعور، أو تعليق فكرة في الهواء لحين العودة إليها. وهنا يكمن جوهر الفاصلة: أنها تحفظ المشهد، لا الصفحة فقط.
ومع الوقت، تحوّلت فواصل الكتب إلى عنصر بصري جمالي، يحمل سرديات صغيرة داخل حكاية أكبر. بعضها مصنوع يدويًا، وبعضها مطبوع على ورق مقوّى، وبعضها يحمل كلمات تلهم القارئ، وآخر يكتفي برسم بسيط. لكنّها جميعًا تؤدي الوظيفة ذاتها: أن تجعل القارئ يعود.
فواصل تُختار كما تُختار الكتب
في السنوات الأخيرة، ومع تزايد الاهتمام بالتجربة البصرية للقرّاء، أصبحت الفواصل جزءًا من هوية الكتاب. يدخل الزائر إلى المعرض، وربما يختار فاصلة قبل اختيار كتاب، وكأنها إعلان مبكر لرحلة جديدة. كثير من القرّاء يقتنون فواصل متعدّدة، كل واحدة تناسب نوعًا من الكتب: فاصل يحمل لونًا هادئًا لرواية رومانسية، وآخر يحمل جملة عميقة لكتاب فكري، وثالث مصمّم على شكل شخصية محبّبة لطفل يكتشف القراءة لأول مرة.
الفاصلة هنا تتحوّل إلى امتداد لذوق القارئ، تمامًا كما يتحوّل الكتاب إلى امتداد لأسئلته الداخلية.
رحمة – دار الحلاج: «الفاصلة جزء من هوية الكتاب… وليست ملحقًا ثانويًا»
في جناح دار الحلاج، كانت رحمة تقف أمام مجموعة من الفواصل المعروضة، تتحدّث عن علاقتها بها من موقع قارئة قبل أن تكون موظفة. تقول:
«الفواصل أنواع كثيرة، والقارئ يختارها بحسب الكتاب. أحيانًا أختار فاصلة تشبه أجواء الرواية لأكمل بها الصورة. بالنسبة لي، الفاصلة ليست مجرد أداة لحفظ الصفحة، بل جزء من الحالة التي أعيشها مع الكتاب.»
وترى رحمة أن الإقبال على فواصل الكتب ليس أمرًا عابرًا، بل ظاهرة ثقافية مرتبطة بذوق الشباب، وتضيف:
«الفتيات والمراهقون هم الأكثر اهتمامًا بالفواصل، لأنها تمنح جمالًا خاصًا للكتاب وتشجّع على القراءة. بل إن بعضهم يشتري الفاصلة قبل شراء الكتاب لأنها تعطيه حافزًا نفسيًا.»
تؤكد رحمة أن الفاصلة أصبحت جزءًا من تجربة الكتاب، تمامًا كالورقة واللغة والغلاف.
الفن يلتقي بالقراءة – دار AHS البوسنة والهرسك: «الفاصلة رسالة… لا مجرد قطعة ورقية»
إلى جانب دور النشر التقليدية، برزت هذا العام مشاركات فنية جعلت الفاصل يتحوّل من قطعة صغيرة إلى مساحة إلهام واسعة. من بينهم دار AHS البوسنة والهرسك، حيث يقدّم ممثل الدار عدنان عبد الرحيم رؤية فنية متكاملة.
يقول عدنان»لاحظنا أن فواصل الكتب باتت اليوم ترندًا فنيًا. لم تعد مجرد مؤشر للصفحة، بل أصبحت رسالة يلجأ إليها القارئ. بعض لاعبي كرة القدم يشترون فواصل تحمل كلمات تشجيعية يطالعونها قبل القراءة. الفاصلة أصبحت مساحة لإرسال معنى، أو زرع فكرة، أو تذكير بشيء جميل”.
وتعمل الدار على تصميم فواصل متنوعة تحمل رسائل عاطفية وشعرية وعلمية، وتقدّم أحجامًا وخامات مختلفة تناسب كل الأذواق. يوضح عدنان:
نحن ندمج الفن بالمشاعر في كل قطعة. هناك فواصل لامعة، وأخرى مطبوعة بطريقة فنية خاصة، وبعضها يوزّع لأغراض الترويج، لكن معظمها يباع لأنها أصبحت منتجًا قائمًا بذاته. الإقبال كبير من كل الأعمار، من الأطفال حتى كبار السن.»
وعن مشاركتهم الأولى في بغداد، يعبّر بعدنان عن انطباعه بوضوح:
«الجمهور البغدادي يقدّر الفن. يسأل، يناقش، ويفهم قيمة الفاصلة ودورها. وجدنا تفاعلًا مختلفًا عمّا شهدناه في أربيل والسليمانية. بغداد تمنح المعنى قيمة، وهذا ما لمسناه من اليوم الأول.»
الفاصلة… ذاكرة القارئ العالقة بين السطور
في النهاية، تبقى الفاصلة المساحة المعلقة بين ما قرأه القارئ وما يرغب بقراءته وكانها الحد الفاصل بين الجانبين
إنها وقفة قصيرة تقول:
«سأعود… لأن هناك شيئًا لم يكتمل بعد.»
ولذلك، مهما تغيّرت طرق القراءة، ومهما تطوّرت الكتب الرقمية، ستظل فواصل الكتب جزءًا من روح القراءة، وقطعة جمالية تنتمي للذاكرة أكثر مما تنتمي للورق.
