بسام عبد الرزاق
تصوير: محمود رؤوف
في لقاء جمع العطش بالماء، واثار دهشة الحضور وانعش الذاكرة البحثية، كشف فيه الكاتب يوسف زيدان لجمهوره في معرض العراق الدولي للكتاب، عن مساحة المخطوطات التراثية التي اشتغل عليها، حفرا وبحثا وقراءة، من اجل تقديم تصورات واعية وعلمية لتأريخ المنطقة والصراعات التي انشغلت بها المنطقة في العقود الخمسة الاخيرة، واضاءات اخرى، فضلا عن قفشات زيدان التي ينتظرها محبوه.
وتحدث زيدان في بداية الجلسة الحميمة، والتي حضرها جمهور كبير وادارها الاعلامي د.سعدون محسن ضمد، دفعت بالكاتب الكبير للوقوف اوقات طويلة لسرد تصوراته واشتغالاته في التراث، قائلا: انه “بصراحة، انا خدعت وصدقت، ففي فترة الثمانينيات في مصر وفي بلاد عربية كثيرة تعالت النداءات لاعادة كتابة التاريخ واعادة قراءة التراث والنظر بعين جديدة الى تكويننا، واتضح فيما بعد ان هذه المسألة كانت حيلة اعلامية وسياسية للاشغال العام والتسلية، انا لم ادرك هذا وتعاملت مع الموضوع بجد”.
وذكر انه “قلت وقتها انها دعوة مهمة، ومن كان يعي تلك الفترة كان يدرك انها فترة ضياع، وكانت النخب العربية، من مثقفين وغيرهم، قد ادركت ان مشروع الحداثة ونهضة البلاد العربية والجعجعة الشديدة التي ابتدأت من النصف الثاني من القرن العشرين واستمرت 30 سنة، انها كانت دعوة مجانية”، مبينا انه “نحن كعرب كنا في خيبة فادحة ظهرت آثارها بعد ذلك، وبدلا من مواجهة حقيقية للمأزق الحضاري، طرحت ما يسمى (بالونات اشغال الرأي العام)، وكان منها ما صدقته شخصيا، بضرورة اعادة قراءة التاريخ”.
ويضيف زيدان ان “ما بدى لي وقتها ان المقررات الدراسية في البلاد العربية في وقتها تغالط مغالطات فادحة، والميديا الموجهة سياسيا كانت تخدم الرؤى السياسية غير الناضجة والقائمة على الصوت العالي، والتي اكتوينا بنارها بعد ذلك، هزائم متتالية وخسارات فادحة وقطف وقصف للعقول المستنيرة في البلاد العربية، ولا اظن ان هناك امة نكلت بمفكريها وفنانيها ومبدعيها مثلما حدث في البلاد العربية في الخمسين سنة الاخيرة”، مشيرا الى انه “اذا كانت امة يتم حجب عقلها وفنها وفكرها ونظرها المستقبلي كيف تسير؟ تسير الى الكوارث التي عانينا منها، لكنني صدقت واعدت قراءة التاريخ منطلقا من الاصل والجذر الاساسي للثقافة العربية، المخطوطات، لان هذا الاصل لم يكن قد تلوث بعد، وتشكل وتم توجيهه لخدمة الاغراض السلطوية العليا، والتي اتضح انها مؤذية للحاكم والمحكوم”.
ويكمل انه “وجدت في التاريخ اشياء بسيطة واشياء مركبة تستدعي ان اعيد القراءة، واعادة القراءة تستدعي ان اعمل في المخطوطات، والعمل فيها يستدعي ان افهرس المكتبات غير المفهرسة، من اجل ان اعرف ماذا فيها، واستغرق هذا الامر سنوات طويلة، وفي مصر وحدها كنت فهرست حوالي 18 الف مخطوطة لاوفر المادة الحقيقية التي يمكن ان استند اليها عندما اقرأ، وبعد عملية القراءة اطبق ما قاله ابن الهيثم في مقدمة كتاب (المناظر)، حيث قال: ينبغي علينا اتباع العقل لا الهوى، وقلت ما قلته وجرت ويلات وويلات وكنت احيانا اكتب ذلك ادبا قصصيا وروائيا او في كتب”.
ويجيب زيدان حول انتباهات سعدون ضمد، حول كتاب اللاهوت العربي، بانه “من باب التشويش وعدم التصريح والايهام تلبسنا جميعا وهم، بانه على الصعيد الديني التوحيد هو الغاية والمنتهى فغيب هذا عنا حقائق، فالزمن اليوناني الذي اعطى الهندسة والفلك والفلسفة، لو قلنا منذ زمن طاليس الى زمن الاسكندرية وهنا لدينا حوالي 800 سنة، هل هذه الفترة كانت فترة توحيد؟ بالعكس كانت فترة تعدد الالهة وكانت كل مجموعة بيوت تعبد إلهاً”.
ويزيد بانه “هل شهدت الانسانية حروبا طاحنة في ظل هذا الفكر؟، مصر القديمة، على سبيل المثال كانت من بلدين اثنين، وحين حكم (اخناتون) كان كارثة على مصر، احتلت وتدهورت اوضاع المجامع العلمية التي كانت في مصر، ولم يقولوا لنا هذا في المدارس، انما قالوا بان اخناتون هو مهد التوحيد، وتصورنا ان التوحيد هو الحل وليس المشكلة، والحقيقة كان هو المشكلة، لان العبادة هي سر بين المحدود الذي هو الانسان والمطلق الذي هو الله، وهذا السر ليس قابلا للتداول ولا الاتجار، وان كنت ملحدا او مؤمنا هذا الامر يخصك ولا استطيع ان اعرفه، انما هو اصبح مؤمن ويلزمك بهذا الايمان وينظم المجتمع وفقا له وهاهو يسيطر على افغانستان منذ ثلاثة شهور واليوم يمنع الفتيات من الذهاب الى المدارس”.
ويشير زيدان الى علاقة الانبياء بالتصوف، مبينا ان “دائرة الولاية تشمل النبوة، فكل نبي ولي بالمفهوم الصوفي، والولاية كبرى وصغرى وهذا كلام الكتب الخاص بالائمة، انا ارى المسألة بشكل آخر، ان النفس الانسانية في منطقة معتمة سفلية موروثة منذ زمن سكنة الكهوف، ولا نتصور ان مئات الآلاف من السنين التي عاشها الانسان على الارض وكان يعتمد فيها على القتل والقنص انها انتهت فجأة، والا هؤلاء السفاحون يأتون من اين؟ والسفك الذي نراه في اوقات كثيرة في مجتمعاتنا يأتي من المنطقة المعتمة هذه، والتي فيها شهوة القتل والظلمة المعتمة، انما في المقابل في النفس الانسانية منطقة عليا فيها الفن والاحساس العالي وفيها الرفق والتصوف، وهو سقف الوجود الانساني”.
ويرى زيدان ان “كل انسان يقف في المنطقة الوسطى، اقرب الى القاع المعتم او للمنطقة العليا، فاذا اشتغل احدهم موسيقار طبيعي ان يكون في المنطقة العليا، التاريخ الانساني لا يعرف موسيقارا كان يشتغل سفاحا في الليل، لكننا نعرف بوجود حاكم كان يشتغل سفاحا، لماذا؟ لان المنطقة المعتمة في قاع النفس الانسانية توهجت عنده وطغت على المنطقة العليا، وهذا بعيد عن التصوف، لان التصوف فيه الخيال والفن والسمو الانساني”